• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ردات الفعل النفسية على الفشل المدرسي

ردات الفعل النفسية على الفشل المدرسي
  ◄كلّ فشل، أياً كان نوعه، يشكل حتى في تعريفه "تعدياً على صورة الذات"، ولكن الفشل المدرسي يزيد من وقع ردّات الفعل الاعتيادية هذه، للأسباب التالية:

 

1- الفشل المبكّر:

الطفل، مقارنة بالراشد، ما تزال "أناه" غير قويّة، ولا يمكنه أن يبقى صامداً، إلا إذا استطاع الاتكال، بشكل متتابع وملموس، على "احترام الآخرين" (أهله، معلّميه، رفاقه...).

المشكلة الأخرى هي أنّ الطفل اتكالي، وبنسبة أكبر بكثير من الراشد. والفشل المدرسي يؤثر كثيراً في تقدير الآخرين له، ويمكن أن يحرم الطفل من هذا السند النرجسي الضروري له نفسياً. حتى المراهقين، الذين يظهرون احتقاراً لصورة "التلميذ المجتهد" يعزون هذا الشعور إلى أنّه "عاقل جدّاً"، تقليدي، مطيع جدّاً للسلطات، وليس بسبب علاماته المدرسيّة. وهؤلاء المراهقون أنفسهم يكونون معجبين جدّاً عندما يلتقون بتلميذ لامع مدرسياً، ومتعاطف في الوقت نفسه مع تحديهم للقيم الاجتماعية.

إنّ الأطفال الذين يفشلون في المدرسة، يعانون في معظم الأوقات من صعوبة كبيرة منذ الصفوف التحضيرية. كذلك يجب أن نشير إلى أنّ هذه الصعوبات ليست جليّة بديهية، ولا تتوضّح مبكّراً، لسبب وحيد هو أنّ المدرسة الابتدائية ترفض تقييم نتيجة الأطفال مباشرة. يعني ذلك أنّ الصعوبات التي يعاني منها الأطفال لا تحدد منذ البداية، لأننا نرفض رؤيتها في ذلك الوقت، ونقنع أنفسنا (بدون أي إثباتات) بفكرة أنّ الأطفال الذين ما يزالون صغاراً جدّاً سيتطورون.

لقد أصبح التعليم اليوم، في مجتمعاتنا المتقدّمة في معظم الأوساط تقريباً، المهمة الأساسية للأطفال: فنحن نطلب من الطفل أوّلاً أن "يعمل جيداً في المدرسة". حتى إننا في معظم الأحيان، لا نطلب منه إلّا ذلك... وهكذا أصبح العمل المدرسي المصدر الأساسي، بل الوحيد لنيل التقدير والاعتراف. إنّ حرمان الطفل من النجاح في المدرسة هو حرمانه من الخبز النفسي الذي يشكّل بالنسبة إليه – أكثر مما يشكله بالنسبة للبالغ – تقدير الآخرين له..

كلّ من يواجه الفشل تتكوّن لديه "ردّة فعل" بطريقة أو بأخرى، للدفاع عن النفس. وفي مواجهة الفشل، فإنّ التصرف التكيفي الفعلي الوحيد هو بأن نفعل ما هو ضروري للتعويض عن هذا الفشل، ضمن حدود المعقول، أو لتلافي الوقوع في فشل مماثل في ظروف مشابهة.

الفشل المدرسي، بالنسبة إلى هؤلاء الأطفال الهشين، هو كما رأينا، عبء كبير بشكل ملحوظ، ومن الصعب تجنّب نتائجه لوحدهم. فهم إذاً مدانون، مثل البالغين الهشين في بعض الأحيان، أو موضوعون كذلك في ظروف لا منفذ منها، ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم ضد الفشل، بطرق ليست متكيّفة كذلك، ولكنها ليست مرضية كذلك، لأنّها تسمح بحماية الجزء الأساسي من أناهم، الحفاظ على شخصيتهم، متجنبين الانهيارات الاكتئابية أو النفسانية. وهي طرق وسط بين المرض المتقدّم والتكيّف الواقعي التي تشكل "أساليب الدفاع عن الأنا، في مواجهة الفشل، وفي مواجهة أنواع أخرى من الصعوبات كذلك".

إنّ الفرد الذي يمرّ بصعوبة ما، سواء كان طفلاً أو بالغاً، يحاول الاحتماء بحالات عاشها سابقاً وكانت أكثر إشباعاً بالنسبة إليه من وضعه الحالي.

أما بالنسبة إلى الطفل، فهو يحاول أن يعيش هذه العودة إلى الوراء. كأن يطلب إلى البالغ الإهتمام به طوال الوقت، أو أن يرغب في البقاء كلّ الوقت "ملتصقاً به". كلّ هذا، بالطبع، هو إعادة لأشكال التعلّق البدائي بالأُم. وتواجه المعلمات، أكثر من المعلمين، هذا النوع من ردّات الفعل، لأنّ حساسيتهنّ تشجع ردة الفعل هذه بشكل من الأشكال. والطفل الذي يضع نفسه في مقابل شخص بالغ بالطريقة العاطفية لعلاقة "تراجعيّة" وإتكالية يصبح في وضع نفسي يمنعه من التعلم والتطور.

لقد تابعت لمدة معيّنة من الزمن في أحد الصفوف حالة طفل بين الثامنة والتاسعة من العمر، وهو حاذق جدّاً، ولكنه مضطرب عاطفياً بشكل كبير، واستطاع أن يثير عاطفة معلمة حساسية جدّاً لهذا النوع من المشاكل لصالحه، خاصة وأنّ هذا الطفل خفيف الظل.

وقد طلبت هذه المعلمة مساعدتي حين أدركتُ أنها، بعد عدة أشهر أمضت فيها معظم وقتها في الصف قرب هذا الطفل مهملة الآخرين، لم يتطور هذا الأخير على الإطلاق في التعلم المدرسي. لقد كان هذا الطفل يفهم الشروحات، وينجح في القيام بالفروض التي تقترحها عليه المعلمة حين تكون إلى جانبه. ولكن ما إن تبتعد عنه حتى ينسى كلّ شيء، وعليها أن تعيد في اليوم التالي كلّ شيء من نقطة الصفر... هذا الطفل كان ذكياً إلى حدّ أنّه يتظاهر بأنّه يتعلم حين تدخل المعلمة في لعبته وتؤخذ به، ولكنه... ذكي كفاية كذلك ليفهم أنّه، إذا ما تعلم وتطور فعلاً، يمكن أن يخسر المكتسبات العاطفية الضرورية بالنسبة إليه، والتي ينالها بسبب نجاحه في جعل هذه السيدة اللطيفة تتعلق به..

والحلول النفسية التعليمية للمشاكل التي تسبّبها هذه الآلية الانكفائية صعبة إلى حد كبير. فنحن نُجْبَر على الانتقال بين عقبة وأخرى كما رأينا، أحدها هو بتشجيع المتطلبات التراجعية لدى الأطفال، من خلال احتضاننا الأمومي لهم.

إننا نحصل على أطفال، سعداء من نواحي معيّنة، ولكنهم متقوقعون في هذا القمقم التراجعي الذي يمنع تقدمهم. والعقبة الثانية هي أن نعترض على كلِّ المطالب التراجيعة للطفل، ولكن هنالك خطر في أن نجد أولئك الذين تعدّ هذه الحاجات أساسية جدّاً بالنسبة إليهم، قد تقوقعوا على أنفسهم نهائياً، أو تفجرت لديهم ردّات فعل عنيفة لا يمكن السيطرة عليها، في هذه الحالة يصبح الطفل، بسبب الانطواء على نفسه، أو العدائية الزائدة، أو عدم الاستقرار، كما في الحالة السابقة – إذا ما استثنينا السعادة – في حالة نفسية تمنعه من المشاركة في أيّ محاولة تعليم. الحلّ الدقيق هو "على حدّ السكين"، أن تمزج "الأمومة" والأبوة، بنسب مناسبة لحاجات كلّ طفل، وحتى لتطور حاجاته هذه من يوم إلى يوم ومن ساعة إلى ساعة. يجب أن نعرف كيف نمزج ونحدد النسبة الضرورية من الحنان الأمومي الذي يجب منحه للطفل والذي بدونه لا تنجح أي محاولة مع هذا النوع من الأطفال، والهيبة الأبوية لتطبيق متطلبات تربوية واضحة ومتناسبة مع قدرات كلّ من هؤلاء الأطفال.

ويمكن أن تأخذ حالة الرجوع إلى الوراء أشكالاً أكثر مرضية يمكن أن تصبح دائمة: بويميا، سلس البول، سلس الغائط، وكلّها أعراض تتواجد بكثرة – حسب الإحصاءات لدى هؤلاء الأطفال – ويمكن أن تؤدي في المستقبل إلى حالات إدمان على مواد كيميائية. إنّ مناخ علاقات جيدة داخل الصف يمكن أن يمنع تطور مثل هذه المشكلات، ولكنها عندما تصبح راسخة، يصبح هنالك ضرورة لعلاج نفسي عادي بصورة مباشرة.

 

2- التحويل:

تتحول الحاجة لاحترام الذات لدى الطفل من النشاط المدرسي – حيث لا يتوصل إلى الاكتفاء – إلى نشاطات أخرى. يمكن أن يكون هذا التحويل مساعداً على التأقلم اجتماعياً، إذا كانت هذه النشاطات محبّذة اجتماعياً، إذا كانت هذه النشاطات محبّذة اجتماعياً، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى النشاطات الرياضية. لكن هذا الأمر سيكون مزعجاً جدّاً، بالطبع، إذا ما كانت هذه النشاطات لا اجتماعية. (عدائية... جنوح...). تبقى لدى التلاميذ بعض هذه التحويلات، مرتبطة بالإطار المدرسي. فمنهم من يتخذ "مواقف" داخل المدرسة كلعب دور "مهرج الصف" أو "زعيم الطلاب في أثناء الفرصة" أو عند انتهاء الصفوف ويمكن أن يصل إلى الجنوحية المدرسية (تخريب الأدوات المدرسية مثلاً). كلّ هذه التصرفات هي نوع من الإبقاء على رابط بالمدرسة، وإن كان ذلك بصورة مشوّهة، فمن نواحٍ عديدة، هذه التصرفات، مع أنّها مزعجة جدّاً، هي أقل إثارة للقلق وغير مسببة لليأس تجاه مستقبل الطفل المدرسي من التصرفات التي تظهر عدم الإهتمام بالمدرسة. القاعدة الذهبية هنا هي محاولة إنقاذ علاقة الطفل بمدرسته بأي ثمن، مثلاً من خلال تشجيع الانتقال إلى نشاطات مدرسية جانبية.

 

3- التعويض التخيّلي:

ونعني بذلك تطور حياة خيالية تعويضية، تترجم خارجياً بتبلد المشاعر في الوضع المدرسي على الأقل. وهو تصرّف تقليدي في الطفولة (وفي ما بعد كذلك!).

هؤلاء الأطفال يتخيلون أكثر من الآخرين، وهذا الأمر ليس سيئاً جدّاً، إلّا إذا أثر بشكل سلبي على الأعمال الأكثر "واقعية" فإنّ الاستخدام المبالغ به لهذا الأسلوب، وليس الأسلوب نفسه، هو طريقة من طرق الاستسلام للفشل، والغرق فيه. فالطفل الحالم الذي يقدره كثيراً الشاعر "جاك بريفير" قليلاً ما يكون له مستقبل... مثل حياة هذا الأخير.

ردة الفعل التربوية على هذه الوسيلة الدفاعية بسيطة في معظم الحالات... يجب تشجيع إعادة استثمار النشاط العقلي الهائل للطفل في الدراسة، من خلال نشاطات تعبيرية في معظم الأحيان، وخاصة التعبير من خلال اللغة.. ولكن يجب ألا نبني الكثير من الأحكام كذلك على الأطفال. الطفل الحالم هو تلميذ جيد بالقوة، لأنّ لديه طبيعياً نشاط عقلي كبير، وهو الجزء الأساسي من عملية التعلم في المدارس.. ولكن الأطفال يفقدون في معظم الأحيان الوسائل العقلية الكبيرة، بشكل يتوصّلون من خلاله إلى بناء عالم خيالي كاف.

فمعظمهم يصبح نشاطهم العقلي فقيراً جدّاً، بسبب الفقر الثقافي أو الشلل العاطفي.

 

4- الإنكار:

وهنا نتكلم عن وسيلة دفاعية تقليدية جدّاً: وهي مبدأ ما يسمى بـ" عنصرية الأبيض الصغير". فيتم تغطية الفشل الشخصي (سواء كان حقيقياً أو متوهماً) من خلال الإشارة إلى الفشل "الأسوأ" للآخرين. وهذه الظاهرة تقليدية جدّاً، في الصفوف الخاصة بالذات.

وهذه الوسيلة قريبة من التماثل بالمعتدي، فيقلّد الطفل هنا الأحكام السيئة الموجّهة ضده، ويوجّهها إلى الآخرين. وهنا يظهر نموذج طفل "قائد للصف"، ولكنه هنا قائد معاون للأستاذ، وليس محرّضاً ضده.

وهو يرى في الأستاذ "قائداً" مسيطراً وسادياً، ويقلّد في تصرفاته تجاه الأطفال الآخرين تصرفات الأستاذ التي توحي بالسيطرة. وهذا موقف فعّال جدّاً من الناحية النفسية، لأنّ الأستاذ قد يعتمد أحياناً على هؤلاء الأطفال ليساعدوه في ضبط الصف، وهو أمر مغر، وبخاصة أنّ الأطفال الذين يتوصلون إلى اعتماد هذا الموقف هم في معظم الأحيان الأكثر نشاطاً وحركة.

هذا الوضع غير محتمل بالنسبة إلى الأطفال الآخرين، وبخاصة أولئك الأكثر هشاشة بينهم، والذين يعانون بما فيه الكفاية من المشاكل الدراسية، ليتحمّلوا كذلك معاملة هؤلاء "العملاء" السيئة. كما أنّ موقف الأستاذ هذا الذي يعطي أهمية للطفل القائد يجعل الطفل صاحب المشكلة في دراسته، يخفف من جهوده في التعلّم، فيصبح وضعه الدراسي سيئاً.

هذه التصرّفات يجب أن توضع لها الحدود، من خلال إيقاف الأطفال بجدية عند حدودهم، لجعلهم يواجهون مشاكلهم الشخصية الحقيقية، ولكن مناخ المجموعة يصبح ضاغطاً ومنافياً للأخلاق. في هذه الحالات لا تنفع محاولات التنظيم الجماعية، الديموقراطية للصفّ، بخاصة حين تصبح هذه المحاولات التربوية مجرد غطاء لـ(كاريزما) المعلم.

 

الخاتمة:

الفكرة الأساسية هنا هي أنّه ومهما كانت الأسباب الأساسية للفشل المدرسي، فهو يصيب الطفل بجرح نفسي، إصابة كبيرة، سواء كان واعياً أو لا واعياً في "احترامه لنفسه". وهذا الجرح يدفع الطفل بالضرورة إلى تطوير وسائل دفاع، مع خطر انهيار كبير في شخصيته (اكتئاب، اضطراب، وحتى عُصاب..) لذلك يجب أن يحترم الأستاذ المتخصص، قبل كلّ شيء، وسائل دفاع تلامذته الضرورية بالنسبة إليهم، وإلّا تسبّب في كارثة، حتى وإن كانت نيته صافية. القاعدة النفسية التعليمية الأساسية هي ألّا نحطم دفاعه عن نفسه، وإن كان ذلك صعباً على المعلم وغير مساعد للطفل. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّه من الضروري أن لا يتخلى الطفل عن وسائله الدفاعية من أجل توازنه النفسي، إلّا إذا كان من الممكن استبدال الإيجابيات النفسية التي تقوم بها هذه الوسائل بإيجابيات أخرى، تكون لها نفسياً الفعالية نفسها، بالنسبة إلى الطفل، وتكون ملائمة لحاجاته الدراسية. يجب أن نبدي الملاحظة التالية وهي أنّ التقرّب من الطفل الذي يمرّ بحالات نفسية سببها الفشل المدرسي كثيراً ما يتمّ، باتخاذ طرق طويلة وملتوية قد لا تبدو مفيدة لوضعه المدرسي في البداية. مثلاً، عندما نرفع الكبت عن الطفل، ترافقه في معظم الأحيان مرحلة انفجار غير مريحة، للأستاذ ولكلِّ المحيطين به، ولكنّ ردات فعله العدائية هذه (الانفجارية) هي دليل على عودة استقراره النفسي، وهي إيجابية على هذا الصعيد. ولكن يجب إعادة تحويل هذه الطاقة نحو التعلم المدرسي. هذه المشاكل المعقدة تحتاج إذاً، بشكل عام، إلى إدارة دقيقة مرنة وشخصية جدّاً، في العلاقة بين الأستاذ المتخصص وكلّ من تلاميذه، ووضع البرامج المدرسية الضاغطة جانباً لمدة من الزمن.

كذلك فإنّ تدريب أساتذة متخصصين يسمح ويسهل الإهتمام الدقيق، النفساني والتعليمي، بالحاجات التربوية لهؤلاء التلامذة.►

 

المصدر: مجلة الملف التربوي

ارسال التعليق

Top